سورة الرعد - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
اعلم أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في الحشر والنشر أولاً، ثم طعنوا في نبوته بسبب طعنهم في صحة ما ينذرهم به من نزول عذاب الاستئصال ثانياً، ثم طعنوا في نبوته بأن طلبوا منه المعجزة والبينة ثالثاً، وهو المذكور في هذه الآية.
واعلم أن السبب فيه أنهم أنكروا كون القرآن من جنس المعجزات وقالوا: هذا كتاب مثل سائر الكتب وإتيان الإنسان بتصنيف معين وكتاب معين لا يكون معجزة ألبتة، وإنما المعجز ما يكون مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السلام.
واعلم أن من الناس من زعم أنه لم يظهر معجز في صدق محمد عليه الصلاة والسلام سوى القرآن.
قالوا: إن هذا الكلام، إنما يصح إذا طعنوا في كون القرآن معجزاً، مع أنه ما ظهر عليه نوع آخر من المعجزات، لأن بتقدير أن يكون قد ظهر على يده نوع آخر من المعجزات لامتنع أن يقولوا: {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ} فهذا يدل على أنه عليه السلام ما كان له معجز سوى القرآن.
واعلم أن الجواب عنه من وجهين:
الأول: لعل المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوا منه صلى الله عليه وسلم كحنين الجذع ونبوع الماء من بين أصابعه وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل، فطلبوا منه معجزات قاهرة غير هذه الأمور: مثل فلق البحر بالعصا، وقلب العصا ثعباناً.
فإن قيل: فما السبب في أن الله تعالى منعهم وما أعطاهم؟
قلنا إنه لما أظهر المعجزة الواحدة فقد تم الغرض فيكون طلب الباقي تحكماً وظهور القرآن معجزة، فما كان مع ذلك حاجة إلى سائر المعجزات، وأيضاً فلعله تعالى علم أنهم يصرون على العناد بعد ظهور تلك المعجزات الملتمسة، وكانوا يصيرون حينئذ مستوجبين لعذاب الاستئصال، فلهذا السبب ما أعطاهم الله تعالى مطلوبهم، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] بين أنه لم يعطهم مطلوبهم لعلمه تعالى أنهم لا ينتفعون به، وأيضاً ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له. وهو أنه كلما أتى بمعجزة جاء واحد آخر، فطلب منه معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم السلام، وأنه باطل.
الوجه الثاني: وفي الجواب لعل الكفار ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات. ثم إنه تعالى لما حكى عن الكفار ذلك قال: {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلّ قَوْمٍ هَادٍ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اتفق القراء على التنوين في قوله: {هَادٍ} وحذف الياء في الوصل، واختلفوا في الوقف، فقرأ ابن كثير: بالوقف على الياء، والباقون: بغير الياء، وهو رواية ابن فليح عن ابن كثير للتخفيف.
المسألة الثانية: في تفسير هذه الآية وجوه:
الأول: المراد أن الرسول عليه السلام منذر لقومه مبين لهم، ولكل قوم من قبله هاد ومنذر وداع، وأنه تعالى سوى بين الكل في إظهار المعجزة إلا أنه كان لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحق التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة، فلما كان الغالب في زمان موسى عليه السلام هو السحر جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغالب في أيام عيسى عليه السلام الطب، جعل معجزته ما كان من جنس تلك الطريقة وهو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ولما كان الغالب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم الفصاحة والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان وهو فصاحة القرآن فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع كونها أليق بطباعهم فبأن لا يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات أولى فهذا هو الذي قرره القاضي وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظماً.
والوجه الثاني: وهو أن المعنى أنهم لا يجحدون كون القرآن معجزاً فلا يضيق قلبك بسببه إنما أنت منذر فما عليك إلا أن تنذر إلى أن يحصل الإيمان في صدورهم ولست بقادر عليهم ولكل قوم هاد، قادر على هدايتهم بالتخليق وهو الله سبحانه وتعالى فيكون المعنى ليس لك إلا الإنذار، وأما الهداية فمن الله تعالى.
واعلم أن أهل الظاهر من المفسرين ذكروا هاهنا أقوالاً: الأول: المنذر والهادي شيء واحد والتقدير: إنما أنت منذر ولكل قوم منذر على حدة ومعجزة كل واحد منهم غير معجزة الآخر.
الثاني: المنذر محمد صلى الله عليه وسلم والهادي هو الله تعالى روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك.
والثالث: المنذر النبي. والهادي علي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر ثم أومأ إلى منكب علي رضي الله عنه وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.


{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في وجه النظم وجوه، الأول: أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم طلبوا آيات أخرى غير ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم بين أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فيعلم من حالهم أنهم هل طلبوا الآية الأخرى للاسترشاد وطلب البيان أو لأجل التعنت والعناد، وهل ينتفعون بظهور تلك الآيات، أو يزداد إصرارهم واستكبارهم، فلو علم تعالى أنهم طلبوا ذلك لأجل الاسترشاد وطلب البيان ومزيد الفائدة، لأظهره الله تعالى وما منعهم عنه، لكنه تعالى لما علم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لأجل محض العناد لا جرم أنه تعالى منعهم عن ذلك وهو كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا} [يونس: 20] وقوله: {قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} [العنكبوت: 50] والثاني: أن وجه النظم أنه تعالى لما قال: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] في إنكار البعث وذلك لأنهم أنكروا البعث بسبب أن أجزاء أبدان الحيوانات عند تفرقها وتفتتها يختلط بعضها ببعض ولا يبقى الامتياز فبين تعالى أنه إنما لا يبقى الامتياز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات، أما في حق من كان عالماً بجميع المعلومات، فإنه يبقى تلك الأجزاء بحيث يمتاز بعضها عن البعض، ثم احتج على كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات بأنه يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام.
الثالث: أن هذا متصل بقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] والمعنى: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات فهو تعالى إنما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه فيه مصلحة، والله أعلم.
المسألة الثانية: لفظ ما في قوله: {مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} إما أن تكون موصولة وإما أن تكون مصدرية، فإن كانت موصولة، فالمعنى أنه يعلم ما تحمله من الولد أنه من أي الأقسام أهو ذكر أم أنثى وتام أو ناقص وحسن أو قبيح وطويل أو قصير وغير ذلك من الأحوال الحاضرة والمترقبة فيه.
ثم قال: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} والغيض هو النقصان سواء كان لازماً أو متعدياً يقال: غاض الماء وغضته أنا ومنه قوله تعالى: {وَغِيضَ الماء} [هود: 44] والمراد من الآية وما تغيضه الأرحام إلا أنه حذف الضمير الراجع وقوله: {وَمَا تَزْدَادُ} أي تأخذه زيادة تقول: أخذت منه حقي وازددت منه كذا، ومنه قوله تعالى: {وازدادوا تِسْعًا} [الكهف: 25] ثم اختلفوا فيما تغيضه الرحم وتزداده على وجوه:
الأول: عدد الولد فإن الرحم قد يشتمل على واحد واثنين وعلى ثلاثة وأربعة يروي أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه.
الثاني: الولد قد يكون مخدجاً، وقد يكون تاماً.
الثالث: مدة ولادته قد تكون تسعة أشهر وأزيد عليها إلى سنتين عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وإلى أربعة عند الشافعي وإلى خمس عند مالك، وقيل: إن الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً.
الرابع: الدم فإنه تارة يقل وتارة يكثر.
الخامس: ما ينقص بالسقط من غير أن يتم وما يزداد بالتمام.
السادس: ما ينقص بظهور دم الحيض، وذلك لأنه إذا سال الدم في وقت الحمل ضعف الولد ونقص. وبمقدار حصول ذلك النقصان يزداد أيام الحمل لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النقصان قال ابن عباس رضي الله عنهما: كلما سال الحيض في وقت الحمل يوماً زاد في مدة الحمل يوماً ليحصل به الجبر ويعتدل الأمر.
السابع: أن دم الحيض فضلة تجتمع في بطن المرأة فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات فاضت وخرجت، وسالت من دواخل تلك العروق، ثم إذا سالت تلك المواد امتلأت تلك العروق مرة أخرى هذا كله إذا قلنا إن كلمة ما موصولة.
أما إذا قلنا: إنها مصدرية فالمعنى: أنه تعالى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا من أوقاته وأحواله.
وأما قوله تعالى: {وَكُلُّ شَيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} فمعناه: بقدر واحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه، كقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيء خلقناه بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وقوله في أول الفرقان: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2].
واعلم أن قوله: {كُلّ شَيء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} يحتمل أن يكون المراد من العندية العلم ومعناه: أنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات ويحتمل أن يكون المراد من العندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية، وعند حكماء الإسلام أنه تعالى وضع أشياء كلية وأودع فيها قوى وخواص، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات مخصوصة مقدرة، ويدخل في هذه الآية أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم، وهو من أدل الدلائل على بطلان قول المعتزلة.
ثم قال تعالى: {عالم الغيب والشهادة} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد علم ما غاب عن خلقه وما شهدوه.
قال الواحدي: فعلى هذا (الغيب) مصدر يريد به الغائب، (والشهادة) أراد بها الشاهد.
واختلفوا في المراد بالغائب والشاهد.
قال بعضهم: الغائب هو المعلوم، والشاهد هو الموجود، وقال آخرون: الغائب ما غاب عن الحس، والشاهد ما حضر، وقال آخرون: الغائب ما لا يعرفه الخلق، والشاهد ما يعرفه الخلق. ونقول: المعلومات قسمان: المعلومات والموجودات، والمعدومات منها معدومات يمتنع وجودها ومنها معدومات لا يمتنع وجودها، والموجودات أيضاً قسمان: موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحد من هذه الأقسام الأربعة له أحكام وخواص، والكل معلوم لله تعالى، وحكى الشيخ الإمام الوالد عن أبي القاسم الأنصاري عن إمام الحرمين- رحمهم الله تعالى- أنه كان يقول لله تعالى معلومات لا نهاية لها، وله في كل واحد من تلك المعلومات، معلومات أخرى لا نهاية لها، لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل وموصوفاً بصفات لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالم بكل الأحوال على التفصيل، وكل هذه الأقسام داخل تحت قوله تعالى: {عالم الغيب والشهادة}.
ثم إنه تعالى ذكر عقيبه قوله: {الكبير} وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثة والحجم والمقدار، فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة والمقادير الإلهية ثم وصف تعالى نفسه بأنه المتعال وهو المتنزه عن كل ما لا يجوز عليه وذلك يدل على كونه منزهاً في ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الآية دالة على كونه تعالى موصوفاً بالعلم الكامل والقدرة التامة، ومنزهاً عن كل ما لا ينبغي، وذلك يدل على كونه تعالى قادراً على البعث الذي أنكروه وعلى الآيات التي اقترحوها وعلى العذاب الذي استعجلوه، وأنه إنما يؤخر ذلك بحسب المشيئة الإلهية عند قوم وبحسب المصلحة عند آخرين، وقرأ ابن كثير (المتعالي) بإثبات الياء في الوقف والوصل على الأصل. والباقون بحذف الياء في الحالتين للتخفيف ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال: {سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لفظ (سواء) يطلب اثنين تقول سواء زيد وعمرو ثم فيه وجهان.
الأول: أن سواء مصدر والمعنى: ذو سواء كما تقول: عدل زيد وعمرو أي ذوا عدل.
الثاني: أن يكون سواء بمعنى مستو وعلى هذا التقدير فلا حاجة إلى الإضمار إلا أن سيبويه يستقبح أن يقول مستو زيد وعمرو لأن أسماء الفاعلين إذا كانت نكرات لا يبدأ بها.
ولقائل أن يقول: بل هذا الوجه أولى لأن حمل الكلام عليه يغني عن التزام الإضمار الذي هو خلاف الأصل.
المسألة الثانية: في المستخفي والسارب قولان:
القول الأول: يقال: أخفيت الشيء أخفيه إخفاء فخفي واستخفى فلان من فلان أي توارى واستتر. وقوله: {وَسَارِبٌ بالنهار} قال الفراء والزجاج: ظاهر بالنهار في سربه أي طريقه. يقال: خلا له سربه، أي طريقه.
وقال الأزهري: تقول العرب سربت الإبل تسرب سرباً، أي مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت، فإذا عرفت ذلك فمعنى الآية سواء كان الإنسان مستخفياً في الظلمات أو كان ظاهراً في الطرقات، فعلم الله تعالى محيط بالكل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: سواء ما أضمرته القلوب وأظهرته الألسنة.
وقال مجاهد: سواء من يقدم على القبائح في ظلمات الليالي، ومن يأتي بها في النهار الظاهر على سبيل التوالي.
والقول الثاني: نقله الواحدي عن الأخفش وقطرب أنه قال: المستخفي الظاهر والسارب المتواري ومنه يقال: خفيت الشيء وأخفيته أي أظهرته. واختفيت الشيء استخرجته ويسمى النباش المستخفي والسارب المتواري ومنه يقال: للداخل سرباً، والسرب الوحش إذا دخل في السرب أي في كناسة.
قال الواحدي: وهذا الوجه صحيح في اللغة، إلا أن الاختيار هو الوجه الأول لاطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضاً فالليل يدل على الاستتار، والنهار على الظهور والانتشار.


{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)}
اعلم أن الضمير من له عائد إلى من في قوله: {سَوَاء مّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} [الرعد: 10] وقيل على اسم الله في عالم الغيب والشهادة، والمعنى: لله معقبات، وأما المعقبات فيجوز أن يكون أصل هذه الكلمة معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله: {وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب} [التوبة: 90] والمراد المعتذرون ويجوز أن يكون من عقبه إذا جاء على عقبه فاسم المعقب من كل شيء ما خلف يعقب ما قبله، والمعنى في كلا الوجهين واحد.
إذا عرفت هذا فنقول: في المراد بالمعقبات قولان.
الأول: وهو المشهور الذي عليه الجمهور أن المراد منه الملائكة الحفظة وإنما صح وصفهم بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وبالعكس، وإما لأجل أنهم يتعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ والكتب، وكل من عمل عملاً ثم عاد إليه فقد عقب، فعلى هذا المراد من المعقبات ملائكة الليل وملائكة النهار.
روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك فقال عليه السلام: «ملك عن يمينك يكتب الحسنات وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال لصاحب اليمين أكتب؟ فيقول لا لعله يتوب فإذا قال ثلاثاً قال نعم أكتب أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله تعالى واستحياءه منا، وملكان من بين يديك ومن خلفك فهو قوله تعالى: {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لربك رفعك وإن تجبرت قصمك، وملكان على شفتك يحفظان عليك الصلاة علي، وملك علي فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك، وملكان على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي تبدل ملائكة الليل بملائكة النهار فهم عشرون ملكاً على كل آدمي» وعنه صلى الله عليه وسلم: «يتعاقب فيكم ملاكئة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» وهو المراد من قوله: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} [الإسراء: 78] قيل: تصعد ملائكة الليل وهي عشرة وتنزل ملائكة النهار، وقال ابن جريج: هو مثل قوله تعالى: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ} [ق: 17] صاحب اليمين يكتب الحسنات والذي عن يساره يكتب السيئات.
وقال مجاهد: ما من عبد إلا وله ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته. وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: الملائكة ذكور، فلم ذكر في جمعها جمع الإناث وهو المعقبات؟
والجواب: فيه قولان.
الأول: قال الفراء: المعقبات ذكران جمع ملائكة معقبة، ثم جمعت معقبة بمعقبات، كما قيل: ابناوات سعد ورجالات بكر جمع رجال، والذي يدل على التذكير قوله: {يَحْفَظُونَهُ}.
والثاني: وهو قول الأخفش: إنما أنثت لكثرة ذلك منها، نحو: نسابة، وعلامة، وهو ذكر.
السؤال الثاني: ما المراد من كون أولئك المعقبات من بين يديه ومن خلفه؟
والجواب: أن المستخفي بالليل والسارب بالنهار قد أحاط به هؤلاء المعقبات فيعدون عليه أعماله وأقواله بتمامها، ولا يشذ من تلك الأعمال والأقوال من حفظهم شيء أصلاً، وقال بعضهم: بل المراد يحفظونه من جميع المهالك من بين يديه ومن خلفه، لأن السارب بالنهار إذا سعى في مهماته فإنما يحذر من بين يديه ومن خلفه.
السؤال الثالث: ما المراد من قوله: {مِنْ أَمْرِ الله}.
والجواب: ذكر الفراء فيه قولين:
القول الأول: أنه على التقديم والتأخير والتقدير: له معقبات من أمر الله يحفظونه.
القول الثاني: أن فيه إضماراً أي ذلك الحفظ من أمر الله أي مما أمر الله به فحذف الاسم وأبقى خبره كما يكتب على الكيس، ألفان والمراد الذي فيه ألفان.
والقول الثالث: ذكره ابن الأنباري أن كلمة من معناها الباء والتقدير: يحفظونه بأمر الله وباعانته، والدليل على أنه لابد من المصير إليه أنه لا قدرة للملائكة ولا لأحد من الخلق على أن يحفظوا أحداً من أمر الله ومما قضاه عليه.
السؤال الرابع: ما الفائدة في جعل هؤلاء الملائكة موكلين علينا؟
والجواب: أن هذا الكلام غير مستبعد، وذلك لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة، ولا شك أن تلك الكواكب لها أرواح عندهم، فتلك التدبيرات المختلفة في الحقيقة لتلك الأرواح، وكذا القول في تدبير القمر والهيلاج والكدخدا على ما يقوله المنجمون.
وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور في ألسنتهم ولذلك تراهم يقولون: أخبرني الطباعي التام. ومرادهم بالطباعي التام أن لكل إنسان روحاً فلكية يتولى إصلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته، وإذا كان هذا متفقاً عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه من الشرع؟ وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة، وبعضها شريرة، وبعضها معزة، وبعضها مذلة، وبعضها قوية القهر والسلطان، وبعضها ضعيفة سخيفة. وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك، فكذا القول في الأرواح الفلكية، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وكل صفة أقوى من الأرواح البشرية وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة، لما أنها تكون في تربية روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية، وتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي. ومتى كان الأمر كذلك كان ذلك الروح الفلكي معيناً لها على مهماتها ومرشداً لها إلى مصالحها وعاصماً لها عن صنوف الآفات، فهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن الذي وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل، فكيف يمكن استنكاره من الشريعة؟ ثم في اختصاص هؤلاء الملائكة وتسلطهم على بني آدم فوائد كثيرة سوى التي مر ذكرها من قبل.
الأول: أن الشياطين يدعون إلى الشرور والمعاصي، وهؤلاء الملائكة يدعون إلى الخيرات والطاعات.
والثاني: قال مجاهد: ما من عبد إلا ومعه ملك يحفظه من الجن والإنس والهوام في نومه ويقظته.
الثالث: أنا نرى أن الإنسان قد يقع في قلبه داع قوي من غير سبب ثم يظهر بالآخرة أن وقوع تلك الداعية في قلبه كان سبباً من أسباب مصالحه وخيراته، وقد ينكشف أيضاً بالآخرة أنه كان سبباً لوقوعه في آفة أو في معصية، فيظهر أن الداعي إلى الأمر الأول كان مريداً للخير والراحة وإلى الأمر الثاني كان مريداً للفساد والمحنة، والأول هو الملك الهادي والثاني هو الشيطان المغوي.
الرابع: أن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب، لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها كما يزجره عنها إذا حضره من يعطيه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال كان ذلك أيضاً رادعاً له عنها وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.
السؤال الخامس: ما الفائدة في كتبة أعمال العباد؟ قلنا هاهنا مقامات:
المقام الأول: أن تفسير الكتبة بالمعنى المشهور من الكتبة.
قال المتكلمون: الفائدة في تلك الصحف وزنها ليعرف رجحان إحدى الكفتين على الأخرى، فإنه إذا رجحت كفة الطاعات ظهر للخلائق أنه من أهل الجنة، وإن كان بالضد فبالضد.
قال القاضي: هذا بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء فلا يتوقف حصول تلك المعرفة على الميزان، ثم أجاب القاضي عن هذا الكلام وقال: لا يمتنع أيضاً ما روينا لأمر يرجع إلى حصول سروره عند الخلق العظيم أنه من أولياء الله في الجنة وبالضد من ذلك في أعداء الله.
والمقام الثاني: وهو قول حكماء الإسلام أن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني لأعيانها وذواتها كانت تلك الكتبة أقوى وأكمل.
إذا ثبت هذا فنقول: إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات وكرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب تكررها ملكة قوية راسخة، فإن كانت تلك الملكة ملكة سارة بالأعمال النافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بها بعد الموت؛ وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد الموت.
إذا ثبت هذا فنقول: إن التكرير الكثير لما كان سبباً لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من الأعمال المتكررة أثر في حصول تلك الملكة الراسخة، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة. وإذا عرفت هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون، إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة، أو آثار الشقاوة قل أو كثر، فهذا هو المراد من كتبة الأعمال عند هؤلاء والله أعلم بحقائق الأمور وهذا كله إذا فسرنا قوله تعالى: {لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} بالملائكة.
القول الثاني: وهو أيضاً منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، واختاره أبو مسلم الأصفهاني المراد: أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل، والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين والأنصار وهم الملوك والأمراء، فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره، ومن سار نهاراً بالمعقبات وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه أحراسه من الله تعالى، والمعقب العون، لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلابد أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخرة، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره، وهم إن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتة، والمقصود من هذا الكلام بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره عن حفظ الله وعصمته ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعده: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ}.
أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد لا يغير ما هم فيه من النعم بإنزال الانتقام إلا بأن يكون منهم المعاصي والفساد.
قال القاضي: والظاهر لا يحتمل إلا هذا المعنى لأنه لا شيء مما يفعله تعالى سوى العقاب إلا وقد يبتدئ به في الدنيا من دون تغيير يصدر من العبد فيما تقدم لأنه تعالى ابتدأ بالنعم دينا ودنياً ويفضل في ذلك من شاء على من يشاء، فالمراد مما ذكره الله تعالى التغيير بالهلاك والعقاب، ثم اختلفوا فبعضهم قال هذا الكلام راجع إلى قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعصية، حتى قالوا: إذا كان المعلوم أن فيهم من يؤمن أو في عقبه من يؤمن فإنه تعالى لا ينزل عليهم عذاب الاستئصال وقال بعضهم: بل الكلام يجري على إطلاقه، والمراد منه أن كل قوم بالغوا في الفساد وغيروا طريقتهم في إظهار عبودية الله تعالى فإن الله يزيل عنهم النعم وينزل عليهم أنواعاً من العذاب، وقال بعضهم: إن المؤمن الذي يكون مختلطاً بأولئك الأقوام فربما دخل في ذلك العذاب.
روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب».
واحتج أبو علي الجبائي والقاضي بهذه الآية في مسألتين:
المسألة الأولى: أنه تعالى لا يعاقب أطفال المشركين بذنوب آبائهم، لأنهم لم يغيروا ما بأنفسهم من نعمة فيغير الله حالهم من النعمة إلى العذاب.
المسألة الثانية: قالوا: الآية تدل على بطلان قول المجبرة إنه تعالى يبتدئ العبد بالضلال والخذلان أول ما يبلغ وذلك أعظم من العقاب، مع أنه ما كان منه تغيير.
والجواب: أن ظاهر هذه الآية يدل على أن فعل الله في التغيير مؤخر عن فعل العبد، إلا أن قوله تعالى: {وَمَا يَشَآءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله} [الإنسان: 30] يدل على أن فعل العبد مؤخر عن فعل الله تعالى، فوقع التعارض.
وأما قوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فقد احتج أصحابنا به على أن العبد غير مستقل في الفعل.
قالوا: وذلك لأنه إذا كفر العبد فلا شك أنه تعالى يحكم بكونه مستحقاً للذم في الدنيا والعقاب في الآخرة، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان لكان قادراً على رد ما أراده الله تعالى، وحينئذ يبطل قوله: {وَإِذَا أراد اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} فثبت أن الآية السابقة وإن أشعرت بمذهبهم، إلا أن هذه الآية من أقوى الدلائل على مذهبنا.
قال الضحاك عن ابن عباس: لم تغن المعقبات شيئاً، وقال عطاء عنه: لا راد لعذابي ولا ناقض لحكمي: {وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ} أي ليس لهم من دون الله من يتولاهم، ويمنع قضاء الله عنهم، والمعنى: ما لهم والٍ يلي أمرهم، ويمنع العذاب عنهم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8